جامعة يوسف بن تاشفين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اذهب الى الأسفل
avatar
د. محمد القاسم أحمد جّباب
Admin
المساهمات : 2
تاريخ التسجيل : 25/11/2022
العمر : 41
https://unybt.yoo7.com

سورة الحجرات  Empty سورة الحجرات

الأربعاء نوفمبر 30, 2022 5:50 pm
سورة الحجرات

﴿ ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم 1  ﴾
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: لا تقدموا فيه لعلماء التفسير ثلاثة أوجه: الأول منها وهو أصحها وأظهرها أنه مضارع «قدم» اللازم بمعنى تقدم.
ومنه مقدمة الجيش، ومقدمة الكتاب بكسر الدال فيهما، وهو اسم فاعل «قدم» بمعنى تقدم.
ويدل لهذا الوجه قراءة يعقوب من الثلاثة الذين هم تمام العشرة: «لا تقدموا» بفتح التاء والدال المشددة، وأصله: لا تتقدموا فحذفت إحدى التاءين.
الوجه الثاني: أنه مضارع «قدم» المتعدي، والمفعول محذوف لإرادة التعميم، أي: لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله ورسوله بل أمسكوا عن ذلك حتى تصدروا فيه عن أمر الله ورسوله.
الوجه الثالث: أنه مضارع «قدم» المتعدي، ولكنها أجريت مجرى اللازم، وقطع النظر عن وقوعها على مفعولها، لأن المراد هو أصل الفعل دون وقوعه على مفعول.
ونظير ذلك قوله تعالى: وهو الذي يحيي ويميت ، أي هو المتصف بالإحياء والإماتة، ولا يراد في ذلك وقوعهما على مفعول.
وكقوله تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، لأن المراد أن المتصفين بالعلم لا يستوون مع غير المتصفين به.
ولا يراد هنا وقوع العلم على مفعول، وكذلك على هذا القول: لا تقدموا لا تكونوا من المتصفين بالتقديم.
وقد قدمنا في كلامنا الطويل على آية: أفلا يتدبرون القرآن أن لفظة: بين يديه ، معناها أمامه، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك.

﴿  ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون 2 .

 والمعنى لا تتقدموا أمام الله ورسوله: فتقولوا في شيء بغير علم ولا إذن من الله، وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله، ويدخل في ذلك دخولا أوليا تشريع ما لم يأذن به الله وتحريم ما لم يحرمه، وتحليل ما لم يحلله، لأنه لا حرام إلا ما حرمه الله ولا حلال إلا ما أحله الله، ولا دين إلا ما شرعه الله.
وقد أوضحنا هذه بالآيات القرآنية بكثرة في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ، وفي سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: ولا يشرك في حكمه أحدا ، وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وفي غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: واتقوا الله أي بامتثال أمره واجتناب نهيه.
وقوله: إن الله سميع عليم فهو سميع لكل ما تقولون من التقديم بين يديه وغيره، عليم بكل ما تفعلون من التقديم بين يديه وغيره.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.
سبب نزول هذه الآية الكريمة، أنه لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد تميم، أشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يؤمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس، وأشار عليه عمر أن يؤمر عليهم الأقرع بن حابس بن عقال، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما فأنزل الله: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ذكره البخاري في صحيحه وغيره.
وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحترموه ويوقروه، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، أي ينادونه باسمه: يا محمد، يا أحمد، كما ينادي بعضهم بعضا.
وإنما أمروا أن يخاطبوه خطابا يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض، كأن يقولوا: يا نبي الله أو يا رسول الله ونحو ذلك.
وقوله: أن تحبط أعمالكم أي لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم، أو ينهاكم عن ذلك كراهة أن تحبط أعمالكم، وأنتم لا تشعرون أي: لا تعلمون بذلك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من لزوم توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه واحترامه جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى: لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ، على القول بأن الضمير في وتعزروه وتوقروه للنبي - صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ، كما تقدم وقوله تعالى: فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه ، وقوله هنا: ولا تجهروا له بالقول أي لا تنادوه باسمه: كـ: يا محمد.
وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله تعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير، كقوله: يا أيها النبي ، يا أيها الرسول ، يا أيها المزمل ، يا أيها المدثر ، مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم كقوله: وقلنا ياآدم ، وقوله: وناديناه أن ياإبراهيم ، وقوله: قال يانوح إنه ليس من أهلك ، قيل يانوح اهبط بسلام منا ، وقوله: قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس ، وقوله: إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ، وقوله: ياداود إنا جعلناك خليفة .
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكر اسمه في القرآن في خطاب، وإنما يذكر في غير ذلك كقوله: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وقوله: وآمنوا بما نزل على محمد ، وقوله: محمد رسول الله والذين معه .
وقد بين تعالى أن توقيره واحترامه - صلى الله عليه وسلم - بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، أي أخلصها لها وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم، وذلك في قوله تعالى: إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم .
وقال بعض العلماء في قوله: ولا تجهروا له بالقول أي لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة، وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها.
انتهى محل الغرض منه.
وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر، وقد قال القرطبي: إنه لا يحبط عمله بغير شعوره، وظاهر الآية يرد عليه.
وقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: وقوله عز وجل أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري، كما جاء في الصحيح: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض» انتهى محل الغرض منه بلفظه.
ومعلوم أن حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته كحرمته في أيام حياته، وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره - صلى الله عليه وسلم - وهم في صخب ولغط.
وأصواتهم مرتفعة ارتفاعا مزعجا كله لا يجوز، ولا يليق، وإقرارهم عليه من المنكر.
وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده - صلى الله عليه وسلم - وقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا.
مسألتان الأولى: اعلم أن عدم احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - المشعر بالغض منه، أو تنقيصه - صلى الله عليه وسلم - والاستخفاف به أو الاستهزاء به - ردة عن الإسلام وكفر بالله.
وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت راحلته: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم .
المسألة الثانية: وهي من أهم المسائل، اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته، التي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه كحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ليضع كل شيء في موضعه، على ضوء ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته - التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله.
فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب ودهمته الدواهي لا يجوز إلا لله وحده، لأنه من خصائص الربوبية، فصرف ذلك الحق لله وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومرضاته، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده - جل وعلا.
وقد بين - جل وعلا - في آيات كثيرة من كتابه أن التجاء المضطر من عباده إليه وحده في أوقات الشدة والكرب من خصائص ربوبيته تعالى.
من أصرح ذلك الآيات التي في سورة النمل، أعني قوله تعالى: قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى إلى قوله: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .
فإنه - جل وعلا - قال في هذه الآيات الكريمات العظيمات: قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون .
ثم بين خصائص ربوبيته الدالة على أنه المعبود وحده، فقال: أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون .
فهذه المذكورات التي هي خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق ذات البهجة، التي لا يقدر على إنبات شجرها إلا الله - من خصائص ربوبية الله ; ولذا قال تعالى بعدها: أإله مع الله يقدر على خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق به، والجواب لا ; لأنه لا إله إلا الله وحده.
ثم قال تعالى: أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون .
فهذه المذكورات أيضا، التي هي جعل الأرض قرارا، وجعل الأنهار خلالها، وجعل الجبال الرواسي فيها، وجعل الحاجز بين البحرين - من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعد ذكرها أإله مع الله؟ والجواب: لا.
فالاعتراف لله - جل وعلا - بأن خلق السماوات والأرض وإنزال الماء وإنبات النبات ونحو ذلك مما ذكر في الآيات من خصائص ربوبيته - جل وعلا - هو الحق، وهو من طاعة الله ورسوله، ومن تعظيم الله وتعظيم رسوله بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في تعظيم الله.
ثم قال تعالى وهو محل الشاهد: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون .
فهذه المذكورات التي هي إجابة المضطر إذا دعا، وكشف السوء وجعل الناس خلفاء في الأرض من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعدها أإله مع الله قليلا ما تذكرون.
فتأمل قوله تعالى: أإله مع الله مع قوله: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء - تعلم أن إجابة المضطرين إذا التجئوا ودعوا وكشف السوء عن المكروبين، لا فرق في كونه من خصائص الربوبية بينه وبين خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء وإنبات النبات، ونصب الجبال وإجراء الأنهار، لأنه - جل وعلا - ذكر الجميع بنسق واحد في سياق واحد، وأتبع جميعه بقوله: أإله مع الله.
فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله توجه إليه الإنكار السماوي الذي هو في ضمن قوله: أإله مع الله فلا فرق البتة بين تلك المذكورات في كونها كلها من خصائص الربوبية.
ثم قال تعالى: أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون .
فهذه المذكورات التي هي هدي الناس في ظلمات البر والبحر، وإرسال الرياح بشرا، أي مبشرات، بين يدي رحمته التي هي المطر - من خصائص ربوبيته - جل وعلا.
ولذا قال تعالى: أإله مع الله، ثم نزه - جل وعلا - نفسه عن أن يكون معه إله يستحق شيئا مما ذكر فقال - جل وعلا: تعالى الله عما يشركون.
ثم قال تعالى: أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .
فهذه المذكورات التي هي بدء خلق الناس وإعادته يوم البعث، ورزقه للناس من السماء بإنزال المطر، ومن الأرض بإنبات النبات - من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعدها أإله مع الله.
ثم عجز - جل وعلا - كل من يدعي شيئا من ذلك كله لغير الله، فقال آمرا نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يخاطبهم بصيغة التعجيز: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
وقد اتضح من هذه الآيات القرآنية أن إجابة المضطرين الداعين، وكشف السوء عن المكروبين، من خصائص الربوبية كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء، وإنبات النبات، والحجز بين البحرين إلى آخر ما ذكر.
وكون إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين من خصائص الربوبية، كما أوضحه تعالى في هذه الآيات من سورة النمل - جاء موضحا في آيات أخر، كقوله تعالى مخاطبا نبيه - صلى الله عليه وسلم: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده .
وقوله تعالى: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير .
وقوله تعالى: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له .
فعلينا معاشر المسلمين أن نتأمل هذه الآيات القرآنية ونعتقد ما تضمنته ونعمل به لنكون بذلك مطيعين لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - معظمين لله ولرسوله ; لأن أعظم أنواع تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص العبادة لله - جل وعلا - وحده.
فإخلاص العبادة له - جل وعلا - وحده هو الذي كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - ويأمر به وقد قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ، وقال تعالى: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين إلى قوله: قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه .
واعلم أن الكفار في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعلمون علما يقينا أن ما ذكر من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب، من خصائص الربوبية وكانوا إذا دهمتهم الكروب، كإحاطة الأمواج بهم في البحر في وقت العواصف يخلصون الدعاء لله وحده، لعلمهم أن كشف ذلك من خصائصه، فإذا أنجاهم من الكرب رجعوا إلى الإشراك.
وقد بين الله - جل وعلا - هذا في آيات من كتابه كقوله تعالى: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق .
وقوله تعالى: قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم الآية .
وقوله تعالى: قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون .
وقوله تعالى: وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا .
وقوله تعالى: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون .
وقوله تعالى: وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد .
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ، أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أنه لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة ذهب فارا منه إلى بلاد الحبشة فركب في البحر متوجها إلى الحبشة فجاءتهم ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده.
فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره.
اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد - صلى الله عليه وسلم - فلأجدنه رءوفا رحيما، فخرجوا من البحر فخرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه.
انتهى.
وقد قدمنا هناك أن بعض المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من هؤلاء الكفار المذكورين ; لأنهم في وقت الشدائد يلجئون لغير الله طالبين منه ما يطلب المؤمنون من الله، وبما ذكر تعلم أن ما انتشر في أقطار الدنيا من الالتجاء في أوقات الكروب والشدائد إلى غير الله - جل وعلا - كما يفعلون ذلك قرب قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند قبور من يعتقدون فيهم الصلاح زاعمين أن ذلك من دين الله ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه ومحبة الصالحين، كله من أعظم الباطل، وهو انتهاك لحرمات الله وحرمات رسوله.
لأن صرف الحقوق الخاصة بالخالق التي هي من خصائص ربوبيته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره ممن يعتقد فيهم الصلاح - مستوجب سخط الله وسخط النبي - صلى الله عليه وسلم - وسخط كل متبع له بالحق.
ومعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر بذلك هو ولا أحد من أصحابه، وهو ممنوع في شريعة كل نبي من الأنبياء، والله - جل وعلا - يقول: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون .
بل الذي كان يأمر به - صلى الله عليه وسلم - هو ما يأمره الله بالأمر به في قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
واعلم أن كل عاقل إذا رأى رجلا متدينا في زعمه مدعيا حب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه وهو يعظم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمدحه بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وأنزل الماء من السماء وأنبت به الحدائق ذات البهجة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا إلى آخر ما تضمنته الآيات المتقدمة، فإن ذلك العاقل لا يشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله المتعدين لحدود الله.
وقد علمت من الآيات المحكمات أنه لا فرق بين ذلك وبين إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين.
فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل وأن نعظم ربنا بامتثال أمره واجتناب نهيه، وإخلاص العبادة له، وتعظيم نبينا - صلى الله عليه وسلم - باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به.
وألا نخالفه - صلى الله عليه وسلم - ولا نعصيه، وألا نفعل شيئا يشعر بعدم التعظيم والاحترام، كرفع الأصوات قرب قبره - صلى الله عليه وسلم - وقصدنا النصيحة والشفقة لإخواننا المسلمين ليعملوا بكتاب الله، ويعظموا نبيه - صلى الله عليه وسلم - تعظيم الموافق لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - ويتركوا ما يسميه الجهلة محبة وتعظيما وهو في الحقيقة احتقار وازدراء وانتهاك لحرمات الله، ورسوله - صلى الله عليه وسلم: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا .
واعلم أيضا رحمك الله: أنه لا فرق بين ما ذكرنا من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب، وبين تحصيل المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله، كالحصول على الأولاد والأموال وسائر أنواع الخير.
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى